الأوراق المبعثرة
نهض الكاتب ليعدّ كوبا من الحليب بالشّوكولا المحلّى بنكهة الفراولة,تاركا
مكتبه المملوء بأوراق و وثائق و صور و ألبومات خاصّة بحياته و التي قام
بترتيبها ليباشر عمله عبر الرّجوع بذاكرته للماضي من خلال تفاصيلها,بهدف إعداد
مجموعة من المقالات أو رواية أو كتاب يتحدّث فيه عن مغامراته وعن بعض
انجازاته,فيدهش القرّاء كالعادة بتصويره للواقع و نقده للمجتمع .
الملعقة في يده تحرّك الحليب
بالشوكولا و الدّماغ يفكّر في ترتيب صارم للأحداث,دقيق في التّفاصيل,مبهر
للعقول,ممتع للأنفس...
أنهى إعداد الكوب وانطلق نحو
غرفته, وجميع حواسّه تعمل على أحسن ما يرام فهذا المشروب أعطى مفعوله السّحريّ
منطلقا من حليمات لسانه إلى كافّة أعضاء جسمه, هذا تغيّير مبهر ثوريّ,لا يمكن أن
يكون بحال أفضل لقد اعتاد على شرب القهوة المرّة مع تدخين سيجارة, و هذا حال أغلب
النّقاد,يتلذّذون بكشف الحقائق,إذ يخرجونها من الحلق مع كلّ نفثه دخان,فتتضاعف
المتعة و يزيد المرح.
وضع الكوب فوق المكتب ليفتح
النّافذة مباشرة,لتفاجئه بريح تهبّ هادرة مزمجرة فتبعثر جميع الأوراق و تنثرها في
أرجاء الغرفة ويا للخيبة,النّظام اختلّ و التّوازن راح و لن يعود قبل ساعات من
العمل.
أخذ في جمع ما تساقط, و إذا به
يظفر بلوحة قديمة ميّتة الألوان,لكن حيّة في الذّاكرة,اضمحلّ شباب تفاصيلها ليعلن
عن تجاعيد من هنا و هناك,كثيرة على مستوى الأطراف,سافر رونق الطّلاء لتحلّ بشاعة
الانكماش و البهتان و إزعاج البقع,لكنّ القدم يضفي الاحترام للصورة كما تضفي
الشّيخوخة الوقار للشيخ.
حملها الكاتب بين يديه برقّة و
حنوّ كما يعطف الشّاب على جدّه العجوز, واحتضنها كما يحتضن الأب وليده الجديد لأول
مرّة و تذكّر الأيّام الخوالي فتسيل دمعة برّاقة من عينيه هي أشبه بتلألؤ سطح الألماس
عند تعرّضه للضوء.
تذكّر المسكين طفولته في أراضي "الحلّة" المترامية الأطراف, لقد مرّت أكثر من أربعة عشر عاما على هجرته من
هذه البلدة العتيقة القديمة قدم الأديان التي مرّت عليها و المقدّسة من السّماء
إلى الأرض أين عاش و ترعرع جميع النّاس الطيّبين البسطاء الذين لم يعرفوا من
العقيدة سوى حبّ الله ومن الأخلاق الصّدق ومن السّياسة السّلام والحبّ.
حملق فيها وأطلق تنهّدات
متتالية,وانبرى يسأل نفسه: ما الذي حصل؟ومن السّبب؟وكيف؟كنت أجري و ألعب في أحضان
الطّبيعة الخضراء الفسيحة مع أترابي حيث تمتلئ رئتاي بالهواء المنعش و يغدو وجهي
أحمر اللّون من كثرة النّشاط,لأعود لأمّي في المساء فتفاجئني ببعض قطع الحلقوم , فتغمرني السّعادة المطلقة و الآن أقطن في شقّة ضيّقة في قلب روما, بعد هربي من
الحرب والدّمار؟
أخذ الكاتب منديلا ثمّ مسح
الغبار بدقّة مضيفا قطرات من الملمّع الخاصّ وعاهد نفسه أن يقوم بدهن الإطار في
الغد بعد أن يتمّ جمع الأوراق المبعثرة.
يتبع
تعليقات
إرسال تعليق