مذكّرات طالب رياضيات
تقطع مسافة طويلة مارّا عبر قنطرة "خزندار" وصولا إلى المعهد الإعدادي أين تمنّيت أن تدرس فيه و
لكنّ تجهيلك و تغييب عقلك منعاك من ذلك,تواصل السّير مرورا بمجلس النّواب بباردو
فلا تعيير للأمر اهتماما رغم احتوائه على جميع قرارات بلادك لكن قراراتها تقصد ظلمها
للعديد ,لاتهمّك بقدر ما تهمّك قراراتك و أحلامك.
تواصل المسير في الشّارع الطّويل الممتدّ المملوء بمحلّات
الملابس و عيادات الأطباء و البنوك و المقاهي و المطاعم و محلّات بيع اللّب و
صولا للطريق الواصلة بين "باردو 3"
و "باب سعدون" يمينا مكان تراه بعينيك و تتحسّر بقلبك نتيجة لشوق أكثر
من أربع سنين للدراسة مع زملائك في كليّة الطّب الّا أنّك تواصل السّير لتلتقي
بطالبي هذه الكلّيّة المكلّلين بالأردية البيضاء السّاحرة القابضة على نفسك و عقلك
و المشوار مازال طويلا و وجب عليك التّقدّم.
تواصل السّير إلى مكان
يسمّى "راس الطّابية" على حدّ
علمك تمرّ بجانب الوادي و روائح كريهة تشمّها فتحتقرها و تحتقر البلاد التي وُلدت فيها لتمرّ بعدها بدهليزين
مظلمين...أولهما شاهدت فيه الكثير مما لا يسرّك و لا يرضي خاطرك :
ناس فقراء اشتدّ بهم
العوز ليمدّوا أيديهم للآخرين...ومن الآخرون؟أفراد ميّتون نفسيّا أو منافقون,يواصلون حياتهم تقصد كذبهم الأبديّ,لتصاب
ببعض الإحباط,ولا حرج عليك ولا لوم فالوباء عام أو كما يقولون باللّهجة العاميّة
التونسيّة "الشّنقة مع الجماعة خلاعة".
وتمرّ بالدّهليز الثّاني فترى
وجوها مملوءة بمشاعر مختلطة:شباب قادمون من جميع الجهات, متعددو الأعراق, يتجمهرون
أمام مكان يُطلق عليه الجامعة أو الكلّية و القمع يجبرك على أن تتبع دربهم فتقتل صدقك
ويحلّ مكانه كذبك على نفسك.
تقترب شيء فشيء ممن مركز
الجامعة فترى مساحة كبيرة أمام الإدارة المركزيّة أين ترى كلابا مزروعة تتقافز هنا
و هناك,حلّ مشكلة بمشكلة أخرى هي ذلك البراز المنتشر هنا و هناك,تتقزّز مرة
أخرى,لتدخل عبر مسار ضيّق إلى حديقة مدرسة المهندسين,حديقة مملوءة بأشجار سامقة
الطّول ممتدّة عبر طريق ملتو,الأزهار و الشجيرات لا تخلوا منه بل تضفي عليه جمالا
و رونقا خاصّين,تلتقي أحيانا بعمّال الحدائق الذين اشتغلوا طويلا لتحسين ذلك
المكان,كأنّ هذا الجمال مكتوب أن يراه المهندسون فقط,أمّا الذين مثلي فيواصلون
السّير,السّير,السّير...
أخيرا بعد مجهود ساعة و
نصف تصل إلى المكان المطلوب,وقطرات العرق تتصبّب من جبينك و من ظهرك,تضع حقيبتك في القاعة المطلوبة,ثمّ
تنزل عبر ممرّ مظلم,تشاهد القدم في شقوق الجدران,مرّ على وجودها أكثر من ستّين
عاما,كأنّها مرّت عليك و استعمرت كيانك المهزوم و جسدك المحروم و عقلك المردوم...
تلتقي بأصدقاء قلّة لكّنهم أعزّاء
على قلبك, تتحدّث معهم, تتمنّى أن تكون أخا لهم, لكنّ القدر يرغمك على أن تقابلهم
لساعات قليلة.
كم تمنّيت أن يرجع الزّمن للوراء, يرجع
للصدق, للبساطة للطبيعيّة, للابتسامة العذبة و الضّحكة النّقيّة...
قرأت في أدب "مارك
توين" عن حقائق عديدة تحديدا في كتاب "مالانسان؟",تمنيت في البداية
ألّا تقرأه لكن بمرور الزّمن اتّضحت عديد الحقائق,فاخترتها مرّة على الزّيف,فهي
رغم أساها أفضل من الكذب...
تجلس في الصّالة الواسعة و تلقي
بسمعك للأستاذة من ورائها الصّبورة أين تكتب معادلات و نظريّات و رموز و أعداد غير عاديّة تُحاك في ظلمة ليل
الصّبّورة عبر خيوط الطباشير الأبيض كأنّها خيوط من دروب نجوم مضيئة في حلكة
الظّلام,تبتهج أحيانا حيث أنّك تحسّ أنّك ملك على عرش المعرفة عند فهمك,و أُخرى
كأنّك أغبى من في الكون عند غياب فهمك.
تعليقات
إرسال تعليق